العلاج بالقرآن.. شبهات وردود(1) *
د.محمد شريف سالم
أشكر كل مهتم بتخفيف آلام الناس، النفسية منها والجسدية، وخاصة من يسهل على الناس طريق التوكل على الله، ويبين لهم كمتخصص أن التداوي لا ينافي التوكل، وأنه إذا كان كلام الله ورسوله فيه الشفاء فإن هذا الشفاء ينبغي الوصول إليه بكل الطرق المشروعة الحلال.
ولن نختلف كثيرًا مع إخواننا الذين قدموا أبحاثًا وآراء واقتراحات في مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب الذي عقد في أبو ظبي بالإمارات في الفترة من 10 إلى 12 إبريل 2007.. فمن ينكر أن القرآن شفاء؟! قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}.
ولكن هل غاب عن الحاضرين كلام الشيخ علي بن مشرف العمري بأن التشخيص الذي يمارسه بعض المتصدرين للعلاج بالقرآن مبني على ثلاثة أمور:
الأول: أن يكون دجالاً مشعوذا.
الثاني: أن يكون رجمًا بالغيب.
الثالث: باطنه فيه المكر مختبئ، بناه على تخرصات وأوهام بزعم الخبرة وتشابه الأعراض.
اعترافات من المعالجين
ونحن لا ننكر أن هناك من يمارس العلاج بالقرآن بإخلاص وحب نفع للغير واقتناع واتباع للشرع بدون إفراط أو تفريط وهؤلاء قليلون، وأيضا هناك من يتستر بالعلاج بالقرآن ويخفي الخبث والجهل وطلب المصلحة بل والموبقات، وهؤلاء كثيرون.
وهناك دراسة تتبعية قمت بها مع عدد من الزملاء والإخوة، قابلنا آلاف الأشخاص الذين سبق تشخيص حالاتهم بأنها مس أو سحر أو عين أو حسد.. وبمناقشة هؤلاء الأشخاص تبين أنهم كانوا يبالغون في الأعراض أو الردود أو الإحساس إلى حد يوهم المعالج بالقرآن أنهم مصابون بالمس والسحر، وقد لاحظنا الآتي:
كلما زاد عدد من عالج الحالة زادت التشخيصات المعطاة من المعالجين؛ مرة مس، مرة سحر، مرة عين، مرة حسد، مرة، مرة...
وقد حصلت شخصيًّا من هؤلاء على اعتراف بأن الصوت الذي كان يصدر عنهم في أثناء جلسة العلاج بالقرآن هو صوتهم، وأن استجابتهم للمعالج كانت على حسب ما يتوقع أن يراه منهم وعلى حسب ما يتمنى المصاب أن يوصف به. ومن المؤسف في ذلك أنه بدلاً من أن يؤثر الإيحاء على الشخص المتعالج يؤثر على المعالج ويوحي المتعالج إلى المعالج بالتشخيص الذي يريده بهدف الهروب -التأثير- إذلال الزوج- تأديب الحماة و"السلايف"- الانتقام من الأقارب وغيرهم.
موقفنا كأطباء هلامي وضبابي، لا يريد أحد أن يتكلم كلامًا محددًا؛ لأن المتعالج (من العامة والسوقة والمنتفعين والهاربين من الواقع) سيقاوم بشدة حتى الموت؛ ولأن المعالج بسبب التكسب أو السمعة أو المكانة العالية لا يستطيع أن يتنازل عنها، أو الغرور أو الجهل. والمصيبة والمشكلة الكبيرة أن هناك أناسا حضروا المؤتمر وأنا أعرفهم شخصيًّا ذهبوا ورجعوا وقناعتهم هي هي.. العلاج بالعفاريت، وتشخيصاتهم: جني عاشق - جني مارد - بيتكم ممتلئ عفاريت - سحر تفريق - سحر بوقف الحال - لمسة أرضية - عمل سفلي - ربط - حسد - عين...الخ بدون أي دليل ديني أو دنيوي إلا الخبرة وذكاء المعالج.
وهناك من بدأ عمله كمعالج بالإخلاص واتباع الدليل ثم بدأ في المخالفات والانحراف وهؤلاء كثيرون؛ لأن ضغط العامة واحتياجاتهم المتعددة خصوصًا الاحتياجات الجنسية للبنات في ظل العنوسة المتفشية والانحرافات الجنسية للمعالج أو طمعه أو وقوعه في فخ غواية النساء المحرومين.. (واعتذر لكم جميعًا عن ذلك، ولكن لعل كل من تصدر لهذا العمل يعلم ذلك جيدا).
وانظر لقول الشيخ عليّ: إن أكثر المعالجين بالقرآن ليس لديهم تصور واضح للأعراض التي تفرق بشكل جلي بين تلك الاضطرابات الروحية التي اعتاد المعالجون بالقرآن أن يوصوا مرضاهم بالتداوي منها والاستنتاج الذي توصل إليه أن الأعراض الظاهرة المذكورة ليست ذات خصوصية، فدعني الآن أقول: بما أنها ليست ذات خصوصية -وأنا معه أؤكد ذلك- فكيف تعينهم في تشخيص تلك العلل؟ وكيف تضع دواءً مناسبا لعلل غير منضبطة التشخيص؟.
ماذا تنتظر من هؤلاء القراء أن يفعلوا؟ إنهم يقرءون القرآن على جثث وجيف لا تصلي ولا تعرف ربها.. وكل ما يهمها: تشخيص؛ أي تصريح بالتمرد واتباع الأهواء والضغط على الأهل، أو الزوج، أو الهروب من أي مسئولية أو جناية أو خطأ، أو إذلال الأهل أو الزوج، أو الانتقام من إنسانة معينة واتهامها كذبًا بأنها قامت بعمل سحر، بأن ينطق الجن المزعوم ويقول: فلانة عملت السحر - فلانة ذهبت للمشعوذ لعمل ربط للزوج، أو تنفيث عن ضغط الشهوة الجنسية بسبب العنوسة، وادعاء أن الجن يقوم بممارسة الجنس معها أو مراودتها، أو الهروب من جماع الزوج لها (لأنه عنين أو ضعيف أو لسرعة القذف) وادعاء أن الجني العاشق لا يريده أن يجامعها.
كم سمعتم عن المعالجين بالقرآن ممن قالوا: "لبسك جن وعلاجك كذا وكذا، وفلان الفلاني عمل لك عملاً صفته كذا وكذا مدفون في المكان الفلاني".. وربما وصف المعالج مكان العمل.. وربما ذهب المصاب ووجد فعلاً شيئًا مدفونًا أو مخبأ في المكان الموصوف.. وكل من فعل ذلك دجال منحرف.
ولكن الناس تريد ذلك.. تسألني من هم الناس؟، أقول لك: المعالج أتعب نفسه وبعث مساعده ودفن له في كل حي وكل بلد لفافة قذرة لزوم أكل العيش ويسميها العمل. والمتعالج يريد هذه اللفة لكي يعطيها للزوج والأهل ليبرر كل أفعاله التي يدعيها، والتي سبق ذكرها..
أنا بنفسي شاهدت المتعالجة المدعية للمس تصرخ وتقول: أنا مسيحي.. وكانت تدعي هذا فقط عندما تأتي بنت زوجها تزورها في البيت وتكيدها. وأنا بنفسي أيضا شاهدت الكاذبة منهم تصرخ وتقول بأن شفتيها تتمددان إلى الأمام، ويطلع منهما شتائم وصراخ وعويل على زوجها، فقط عندما يذهب لزيارة أخته التي هي في حالة خصام دائم معها.
لماذا تترك الحكومات أصحاب هذه السلوكيات؟ هل لأنها جماعات هلامية لا لون لها أو رائحة، أم لأنها دروشة وبدع ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطر منهم ولا حول ولا قوة؟، هل يجرؤ أحد على الادعاء بأن النبي كان يجمع الناس في المسجد أو في بيته يقرأ عليهم القرآن؟ هل ذهب النبي لعلاج الناس في البيوت؟.. بل الثابت هو العكس تماما فقد عاد رسول الله رجلاً به جرح فقال رسول الله: (ادعوا له طبيب بني فلان) قال فدعوه فجاء فقالوا: يا رسول الله ويغني الدواء شيئا؟ فقال: (سبحان الله وهل أنزل الله من داء في الأرض إلا جعل له شفاء).
وفي مسألة فك السحر عندما ذهب النبي في أناس من أصحابه إلى البئر فقال: (هذه البئر التي أُرِيتُها وكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رءوس الشياطين) فاستخرجه. قول النبي: (أُرِيتُها) أي التي أخبره بها الوحي فهل من الممكن أن يوحى إلى أحد من البشر هذه الأيام؟ مستحيل.. فالحل هو العلاج بالقرآن على المنهج المذكور والتوكل على الله. ثم هل فعل ذلك أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو أي من الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين يرحمهم الله مع حاجتهم للعلاج، لماذا؟.. لأن الذي يحدث الآن خارج عن نطاق الشرع والطب بأهداف خفية وطرق مبتدعة.
الجاهلية الثانية
ماذا حدث للشخصية العربية المسلمة؛ فبدلاً من أن تتطور نكصت على عقبيها في أمور كثيرة في الأفكار والمعتقدات؛ وبالتالي السلوك وما زالت الشخصية متمسكة بكم هائل من الخرافات والممارسات الجاهلة، ولا فرق في ذلك بين متعلم وغير متعلم، مثقف أو جاهل، تعليم أولي أو عال، وتتميز هذه العقلية باللجوء إلى الدجالين والمشعوذين والخلط بين الواقع والخيال المرئي والخفي، وفي مراحل اليأس يزيد لجوء الناس إلى الوهم والحلول الوهمية السريعة بدون تعب أو تكاليف والبعد عن الكد والتعب وبذل الجهد والعمل كقيمة تعلي من قدر الإنسان.
وبرغم وجود بعض الأدلة الشرعية لهذه الأفكار، فإن السلوكيات أبعد ما تكون عن هذه الأدلة. ويلفت نظرك الاعتقاد الجازم الذي لا يتزحزح بقدرة بعض المشايخ على فك السحر وفك المربوط والشفاء من كل الأمراض دون أي محاولة لوضع هذه المشاكل في وضعها الصحيح والبحث عن الحل الصحيح طويل الأمد، وليس الحل الوقتي: هذا الجن يدخل يتكلم ثم يخرج، وذاك الجن مارد يصعب التعامل معه، وهذا الجن صغير قليل الخبرة لا يستطيع الخروج.
ومن العجيب أن ما كان سائدا في القرى والنجوع والكفور والمناطق النائية شهد انتشارا في السنوات الأخيرة في مدن القاهرة والإسكندرية وجدة والرياض وأغادير والجزائر وأبو ظبي ودبي، ولم ينحصر طالب الشفاء في الطبقات الأقل تعليما وثقافة بل تحول إلى ظاهرة تجتاح الفئات التي تزعم العلم والثقافة والشهادات والمراكز المرموقة.
والسبب الأساسي هو طلب الناس حل المشكلات بسرعة وبدون تكاليف، وبدون تعب وصبر وعمل، وعدم الرضا بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره ومع زيادة مشاكل الناس ومع زيادة تواكلهم وعدم صبرهم يزداد عدد الكذابين بوعود لن تتحقق: هذا متخصص في إخراج الجن، وذاك داهية في فك السحر، وطبعا الحكاية لن تنتهي إلى الأبد.
--------------------------------------